سورة النساء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ} الصدقات جمع، الواحدة صدقة. قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت. قال المازني: يقال صداق المرأة بالكسر، ولا يقال بالفتح.
وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس. والخطاب في هذه الآية للأزواج، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج. أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم.
وقيل: الخطاب للأولياء، قاله أبو صالح. وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن. قال في رواية الكلبي: أن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير، فنزل: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً}.
وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي ان المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور. والأول أظهر، فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد، لأنه قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى} إلى قوله: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً}. وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الأخر.
الثانية: هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يحجب فيه صداق، وليس بشيء، لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} فعم. وقال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وأجمع العلماء أيضا أنه لاحد لكثيرة، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً}. وقرأ الجمهور {صدقاتهن} بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة {صدقاتهن} بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد {صدقتهن}.
الثالثة: قوله تعالى: {نِحْلَةً} النحلة والنحلة، بكسر النون وضمها لغتان. واصلها من العطاء، نحلت فلانا شيئا أعطيته. فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة.
وقيل: {نِحْلَةً} أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع.
وقال قتادة: معنى: {نِحْلَةً} فريضة واجبة. ابن جريج وابن زيد: فريضة مسماة. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة.
وقال الزجاج: {نِحْلَةً} تدينا. والنحلة الديانة والملة. يقال: هذا نحلته أي دينه. وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية، حتى قال بعض النساء في زوجها:
لا يأخذ الحلوان من بناتنا ***
تقول: لا يفعل ما يفعله غيره. فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء. و{نِحْلَةً} منصوبة على أنها حال من الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره أنحلوهن نحلة.
وقيل: هي نصب على التفسير.
وقيل: هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال.
الرابعة: قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} مخاطبة للأزواج، ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة، وبه قال جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها.
وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. والقول الأول أصح، لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر، والضمير في: {مِنْهُ} عائد على الصداق. وكذلك قال عكرمة وغيره. وسبب الآية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ}.
الخامسة: واتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه. إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه، واحتج بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا. قال ابن العربي: وهذا باطل، لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها، إذ ليس المراد صورة الأكل، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال، وهذا بين.
السادسة: فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها، وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها، ثم تزوج عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم، لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه. كما اشترط أهل بريرة أن تعتقها عائشة والولاء لبايعها، فصحح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العقد وأبطل الشرط. كذلك هاهنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة. قال ابن عبد الحكم: إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء، وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها، لأنه شرط على نفسه شرطا واخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم».
السابعة: وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقا، لأنه ليس بمال، إذ لا يمكن المرأة هبته ولا الزوج أكله. وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب: يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق، على حديث صفية-
رواه الأئمة- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعتقها وجعل عتقها صداقها. وروي عن أنس أنه فعله، وهو راوي حديث صفية. وأجاب الأولون بأن قالوا: لا حجة في حديث صفية، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق، وقد أراد زينب فحرمت على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق. فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا، والله أعلم.
الثامنة: قوله تعالى: {نَفْساً} قيل: هو منصوب على البيان. ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان، وأجاز ذلك المازني وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا. وأنشد:
وما كان نفسا بالفراق تطيب ***
وفي التنزيل: {خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ} فعلى هذا يجوز شحما تفقأت. ووجها حسنت.
وقال أصحاب سيبويه: إن نَفْساً منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا، وليست منصوبة على التمييز، وإذا كان هذا فلا حجة فيه.
وقال الزجاج الرواية:
وما كان نفسي ***
واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما.
التاسعة: قوله تعالى: {فَكُلُوهُ} ليس المقصود صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعني بقوله في الآية التي بعدها {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً}. وليس المراد نفس الأكل، إلا أن الأكل لما كان أو في أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات بالأكل. ونظيره قوله تعالى: {إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} يعلم أن صورة البيع غير مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره، ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى.
العاشرة: قوله تعالى: {هَنِيئاً مَرِيئاً} منصوب على الحال من الهاء في: {فَكُلُوهُ} وقيل: نعت لمصدر محذوف، أي أكلا هنيئا بطيب الأنفس. هنأه الطعام والشراب يهنئه، وما كان هنيئا، ولقد هنؤ، والمصدر الهنء. وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنئ. وهني اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف. وهني يهنأ فهو هنئ على فعل كزمن. وهنأني الطعام ومرأني على الاتباع، فإذا لم يذكر هنأني قلت: أمرأني الطعام بالألف، أي انهضم. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث: «ارجعن مأزورات غير مأجورات». فقلبوا الواو من: «موزورات» ألفا اتباعا للفظ مأجورات.
وقال أبو العباس عن ابن الاعرابي: يقال هنئ وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال مرئني، حكاه الهروي.
وحكى القشيري أنه يقال: هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني، وهو قليل.
وقيل: {هَنِيئاً} لا إثم فيه، و{مَرِيئاً} لا داء فيه. قال كثير:
هنيئا مريئا غير داء مخامر *** لعزة من أعراضنا ما استحلت
ودخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له: كل من الهني المري.
وقيل: الهني الطيب المساغ الذي لا ينغصه شي، والمري المحمود العاقبة، التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة. يدل عليه ما روى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن هذه الآية: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} فقال: «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة» وروي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها، ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء السماء، فيجمع الله عز وجل له الهني والمري والماء المبارك. والله أعلم.


{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} وإيصال الصدقات إلى الزوجات، بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه. فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام. وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة. واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة، فقال عوام أهل العلم: الوصية لها جائزة. واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة. وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال: لا تكون المرأة وصيا، فإن فعل حولت إلى رجل من قومه. واختلفوا في الوصية إلى العبد، فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب. وأجازه مالك والأوزاعي وابن عبد الحكم. وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده. وقد مضى القول في هذا في البقرة مستوفى.
الثانية: قوله تعالى: {السُّفَهاءَ} قد مضى في البقرة معنى السفه لغة. واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء، من هم؟ فروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال: هم الأولاد الصغار، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شي.
وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هم النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات، لأنه الأكثر في جمع فعيلة. ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} يعني الجهال بالأحكام. ويقال: لا تدفع إلى الكفار، ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع، أو يدفع إليه مضاربة.
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر. وهذا جامع.
وقال ابن خويز منداد: وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال: حال يحجر عليه لصغره، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله. فأما المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به. والحجر يكون مرة في حق الإنسان ومرة في حق غيره، فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا. والمحجور عليه في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج، والبكر في حق نفسها. فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما. وأما الكبير فلانه لا يحسن النظر لنفسه في ماله، ولا يؤمن منه إتلاف ما له في غير وجه، فأشبه الصبي، وفيه خلاف يأتي. ولا فرق بين أن يتلف ما له في المعاصي أو في القرب والمباحات. واختلف أصحابنا إذا أتلف ما له في القرب، فمنهم من حجر عليه، ومنهم من لم يحجر عليه. والعبد لا خلاف فيه. والمديان ينزع ما بيده لغرمائه، لإجماع الصحابة، وفعل عمر ذلك بأسيفع جهينة، ذكره مالك في الموطأ. والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها، لأنها لا تحسن النظر لنفسها. حتى إذ تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع. وأما ذات الزوج فلان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها».
قلت: وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره، فلا يدفع إليه المال، لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها. وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره. والله أعلم. واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهي للسفهاء، فقيل: أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا، كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.
وقيل: أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، ومن ملك إلى ملك، أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم، وبها قوام أمركم. وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: أن المراد أموال المخاطبين حقيقة. قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم. فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته. وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء.
الثالثة: ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه، لأمر الله عز وجل بذلك في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} وقال: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً}. فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف. وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ، لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه، والقلم مرفوع عن غير البالغ، فالذم والحرج منفيان عنه، قاله الخطابي.
الرابعة: واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه، فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الامام على يده. وهو قول الشافعي وأبي يوسف.
وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الامام.
وقال أصبغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الامام. واحتج سحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما أحتاج السلطان أن يحجر على أحد. وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن حجر عليه قبل ذلك.
الخامسة: واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهور الفقهاء: يحجر عليه.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو غير مفسد، لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا وأبا، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا. وقيل عنه: إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا. وهذا كله ضعيف في النظر والأثر. وقد روى الدارقطني: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم- هو أبو يوسف القاضي- أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال: إني اشتريت بيع كذا وكذا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى على عثمان فقال: إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه. فقال الزبير: فأنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير؟ قال يعقوب: أنا آخذ بالحجر واراه، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه. قال يعقوب بن إبراهيم: وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر. فقول عثمان: كيف أحجر على رجل، دليل على جواز الحجر على الكبير، فإن عبد الله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها، وقدم مع أبيه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام خيبر فسمع منه وحفظ عنه. وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة. وهذا يرد على أبي حنيفة قوله. وستأتي حجته إن شاء الله تعالى.
السادسة: قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً} أي لمعاشكم وصلاح دينكم.
وفي {الَّتِي} ثلاث لغات: التي والت بكسر التاء والت بإسكانها.
وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات: اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون. وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى. والقيام والقوام: ما يقيمك بمعنى. يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي يصلحه. ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء. وقراءة أهل المدينة {قيما} بغير ألف. قال الكسائي والفراء قيما وقواما بمعنى قياما، وانتصب عندهما على المصدر. أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما.
وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم. يذهب إلى أنها جمع.
وقال البصريون: قيما جمع قيمة، كديمة وديم، أي جعلها الله قيمة للأشياء. وخطأ أبو علي هذا القول وقال: هي مصدر كقيام وقوام واصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد ونحوه. وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك. وقرأ الحسن والنخعي {اللاتي} جعل على جمع التي، وقراءة العامة {الَّتِي} على لفظ الجماعة. قال الفراء: الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي، والأموال التي وكذلك غير الأموال، ذكره النحاس.
السابعة: قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ} قيل: معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها. وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر. فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها.
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني؟» فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة!. قال المهلب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع، وهذا الحديث حجة في ذلك.
الثامنة: قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن. فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها. وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها.
التاسعة: ولا نفقة لولد الولد على الجد، هذا قول مالك. وقالت طائفة: ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض. ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم، هذا قول الشافعي. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، على ظاهر قوله عليه السلام لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
وفي حديث أبي هريرة: «يقول الابن أطعمني إلى من تدعني؟» يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف. ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك، لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} الآية. فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك.
وفي قوله: «تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني» يرد على من قال: لا يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزهري. وإليه ذهب الكوفيون متمسكين بقوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ}. قالوا: فوجب أن ينظر إلى أن يوسر. وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} الآية. قالوا: فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح. ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها. والحديث نص في موضع الخلاف.
وقيل: الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره، على ما تقدم من الخلاف في إضافة المال. فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله، فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة. وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم. وإن كان دون ذلك فبحسبه. وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة. فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الامام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الامام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالاخص. وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به. ولا ترجع عليه ولا على أحد. وقد مضى في البقرة عند قوله: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}.
العاشرة: قوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} أراد تليين الخطاب والوعد الجميل. واختلف في القول المعروف، فقيل: معناه ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك.
وقيل: معناه وعدوهم وعدا حسنا، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم. ويقول الأب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك.


{وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)}
فيه سبع عشرة مسألة. الأولى: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى} الابتلاء الاختبار، وقد تقدم. وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم.
وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الثانية: واختلف العلماء في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله والإهمال لذلك. فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. وليس في العلماء من يقول: إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيدا ترتفع الولاية عنه، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاق يده في التصرف، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ}.
وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، أو أعطاه شيئا نزرا يتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي. فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله وأشهد عليه. وإن كان جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته. فإن رآها رشيدة سلم أيضا إليها مالها وأشهد عليها. وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما.
وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم.
الثالثة: قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} أي الحلم، لقوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أي البلوغ وحال النكاح. والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحبل. فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاث، فأما الإنبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم. وهو قول ابن وهب وأصبغ وعبد الملك بن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي. وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السن. قال أصبغ بن الفرج: والذي نقول به إن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة، وذلك أحب ما فيه إلي وأحسنه عندي، لأنه الحد الذي يسهم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال. واحتج بحديث ابن عمر إذ عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يجز يوم أحد، لأنه كان ابن أربع عشرة سنة. أخرجه مسلم. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا فيمن عرف مولده، وأما من جهل مولده وعدة سنه أو جحده فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي.
وقال عثمان في غلام سرق: انظروا إن كان قد أخضر مئزره فاقطعوه.
وقال عطية القرظي: عرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني قريظة، فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ، ومن لم ينبت منهم استحياه، فكنت فيمن لم ينبت فتركني.
وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة سنة، فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يجب عليه الحد.
وقال مالك مرة: بلوغه بأن يغلظ صوته وتنشق أرنبته. وعن أبي حنيفة رواية أخرى: تسع عشرة سنة، وهي الأشهر.
وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر.
وروى اللؤلؤي عنه ثمان عشرة سنة.
وقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة. فأما الإنبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، روي عن ابن القاسم وسالم، وقاله مالك مرة، والشافعي في أحد قوليه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقيل: هو بلوغ، إلا أنه يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت ويجعل من لم ينبت في الذراري، قاله الشافعي في القول الأخر، لحديث عطية القرظي. ولا اعتبار بالخضرة والزغب، وإنما يترتب الحكم على الشعر.
وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب: لو جرت عليه المواسي لحددته. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم وأحب إلي ألا يقام عليه الحد إلا باجتماع الإنبات والبلوغ.
وقال أبو حنيفة: لا يثبت بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ.
وقال الزهري وعطاء: لا حد على من لم يحتلم، وهو قول الشافعي، ومال إليه مالك مرة، وقال به بعض أصحابه. وظاهره عدم اعتبار الإنبات والسن. قال ابن العربي: إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلا في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فإنه دعوى، والسن التي أجازها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع دليل عليها، وكذلك اعتبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإنبات في بني قريظة، فمن عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظا، ولا جعل الله له في الشريعة نظرا.
قلت: هذا قوله هنا، وقال في سورة الأنفال عكسه، إذ لم يعرج على حديث ابن عمر هناك، وتأوله كما تأوله علماؤنا، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة سنة، ومن لا يطيقه فلا يسهم له فيجعل في العيال. وهو الذي فهمه عمر ابن عبد العزيز من الحديث. والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} أي أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً} أي أبصر وراي. قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا، معناه تبصر. قال النابغة:
... على مستأنس وحد ***
أراد ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره.
وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي علمتم. والأصل فيه أبصرتم. وقراءة العامة {رُشْداً} بضم الراء وسكون الشين. وقرأ السلمي وعيسى والثقفي وابن مسعود رضي الله عنهم {رشدا} بفتح الراء والشين، وهما لغتان.
وقيل: رشدا مصدر رشد. ورشدا مصدر رشد، وكذلك الرشاد. والله أعلم.
الخامسة: واختلف العلماء في تأويل: {رُشْداً} فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحا في العقل والدين.
وقال ابن عباس والسدي والثوري: صلاحا في العقل وحفظ المال. قال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله.
وقال مجاهد: {رُشْداً} يعني في العقل خاصة. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب مالك وغيره.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة عن أنس أن حبان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «لأتبع». فقال: لا أصبر. فقال له: «فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا». قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه مخصوص بذلك على ما بيناه في البقرة، فغيره بخلافه.
وقال الشافعي: إن كان مفسدا لما له ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح. والثاني لا حجر عليه، وهو اختيار أبى إسحاق المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي. قال الثعلبي: وهذا الذي ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم، ومن التابعين شريح، وبه قال الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة.
السادسة إذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الأخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية. وهو رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الآية. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جدا. وهذا يدل على ضعف قوله، وضعف ما احتج به أبو بكر الرازي في أحكام القرآن له من استعمال الآيتين حسب ما تقدم، فإن هذا من باب المطلق والمقيد، والمطلق يرد إلى المقيد باتفاق أهل الأصول. وماذا يغني كونه جدا إذا كان غير جد، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي، ورأوا الاختبار في الذكر والأنثى على ما تقدم. وفرق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فبه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحمل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب، فإن نفس الوطي بإدخال الحشفة لا يزيدها في رشدها إذا كانت عارفة بجميع أمورها ومقاصدها، غير مبذرة لمالها. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن العربي: وذكر علماؤها في تحديدها أقوالا عديدة، منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب. وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول، وجعلوا في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها. وليس في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير، وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة. وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي عنه، أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركب عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه.
السابعة: واختلفوا فيما فعلته ذات الأب في تلك المدة، فقيل: هو محمول على الرد لبقاء الحجر، وما عملته بعده فهو محمول على الجواز.
وقال بعضهم: ما عملته في تلك المدة محمول على الرد إلا أن يتبين فيه السداد، وما عملته بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه السفه.
الثامنة: واختلفوا في دفع المال إلى المحجور عليه هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع إليه ما له. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. قال ابن عطية: والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الصبي، ويبرأ المحجور عليه لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت.
التاسعة: فإذا سلم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عندنا، وعند الشافعي في أحد قوليه.
وقال أبو حنيفة: لا يعود، لأنه بالغ عاقل، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليلنا قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً} وقال تعالى: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ولم يفرق بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق.
العاشرة: ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وإبضاع وشراء وبيع. وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله: عين وحرث وماشية وفطرة. ويؤدي عنه أروش الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة. ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسررها، ويصالح له وعليه على وجه النظر له. وإذا قضى الوصي بعض الغرماء وبقي من المال بقية تفي ما عليه من الدين كان فعل الوصي جائزا. فإن تلف باقي المال فلا شيء لباقي الغرماء على الوصي ولا على الذين اقتضوا. وإن اقتضى الغرماء جميع المال ثم أتى غرماء آخرون فإن كان عالما بالدين الباقي أو كان الميت معروفا بالدين الباقي ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم في المحاصة، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك. وإن لم يكن عالما بذلك، ولا كان الميت معروفا بالدين فلا شيء على الوصي. وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن. وأما إن أشهد وطال الزمان حتى مات الشهود فلا شيء عليه. وقد مضى في البقرة عند قوله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} من أحكام الوصي في الإنفاق وغيره ما فيه كفاية، والحمد لله.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا} ليس يريد أن أكل مالهم من غير إسراف جائز، فيكون له دليل خطاب، بل المراد ولا تأكلوا أموالهم فإنه إسراف. فنهى الله سبحانه وتعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، على ما يأتي بيانه. والإسراف في اللغة الافراط ومجاوزة الحد. وقد تقدم في آل عمران والسرف الخطأ في الإنفاق. ومنه قول الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية *** ما في عطائهم من ولا سرف
أي ليس يخطئون مواضع العطاء.
وقال آخر:
وقال قائلهم والخيل تخبطهم *** أسرفتم فأجبنا أننا سرف
قال النضر بن شميل: السرف التبذير، والسرف الغفلة. وسيأتي لمعنى الإسراف زيادة بيان في الانعام إن شاء الله تعالى. {وَبِداراً} معناه ومبادرة كبرهم، وهو حال البلوغ. والبدار والمبادرة كالقتال والمقاتلة. وهو معطوف على {إِسْرافاً}. و{أَنْ يَكْبَرُوا} في موضع نصب ب {بِداراً}، أي لا تستغنم مال محجورك فتأكله وتقول أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله، عن ابن عباس وغيره.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية. بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم، فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف. يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك. والاستعفاف عن الشيء تركه. ومنه قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً}. والعفة: الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله. روى أبو داود من حديث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم. قال: فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل».
الثالثة عشرة: واختلف العلماء من المخاطب والمراد بهذه الآية؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قالت: نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا جاز أن يأكل منه. في رواية: بقدر ماله بالمعروف.
وقال بعضهم: المراد اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وأعف عن ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره، قاله ربيعة ويحيى بن سعيد. والأول قول الجمهور وهو الصحيح، لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه. والله أعلم.
الرابعة عشرة: واختلف الجمهور في الا كل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: هو القرض إذا احتاج ويقضى إذا أيسر، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الأوزاعي. ولا يستسلف أكثر من حاجته. قال عمر: ألا انى أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. روى عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية {وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: قرضا- ثم تلا {فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}. وقول ثان- روي عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة: لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف، لأن ذلك حق النظر، وعليه الفقهاء. قال الحسن: هو طعمة من الله له، وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. والدليل على صحة هذا القول إجماع الامة على أن الامام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف، لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله. فلا حجة لهم في قول عمر: فإذا أيسرت قضيت- أن لو صح. وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال، كما يهنأ الجرباء، وينشد الضالة، ويلوط الحوض، ويجذ التمر. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها. وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء: إنه يأخذ بقدر أجر عمله، وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرمة. وفرق الحسن بن صالح بن حي- ويقال ابن حيان- بين وصي الأب والحاكم، فلوصي الأب أن يأكل بالمعروف، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وهو القول الثالث. وقول رابع روي عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وذهب إلى أن الآية منسوخة، نسخها قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} وهذا ليس بتجارة.
وقال زيد بن أسلم: إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} الآية.
وحكى بشر بن الوليد عن أبى يوسف قال: لا أدري، لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}. وقول خامس- وهو الفرق بين الحضر والسفر، فيمنع إذا كان مقيما معه في المصر. فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا، قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد. وقول سادس- قال أبو قلابة: فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة، فأما المال الناض فليس له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره. وقول سابع- روى عكرمة عن ابن عباس {وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: إذا احتاج واضطر.
وقال الشعبي: كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه، فإن وجد أو في. قال النحاس: وهذا لا معنى له لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد.
وقال ابن عباس أيضا والنخعي: المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، فيستعفف الغنى بغناه، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. قال النحاس: وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية، لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة.
قلت: وقد اختار هذا القول إلكيا الطبري في أحكام القرآن له، فقال: توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدرا لا ينتهى إلى حد السرف، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به من قوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم. فقوله: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم. فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم. وقد دل عليه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً}. وبان بقوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} الاقتصار على البلغة، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم، فهذا تمام معنى الآية.
فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم. وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين. فإن قال من ينصر مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم، ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟ قيل له: اعلم أن أحدا من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي، فذلك فارق بين المسألتين. وأيضا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك. وقد جعل الله ذلك المال الضائع لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه، وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق.
قلت: وكان شيخنا الامام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله، وإن كان تافها لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن واكل القليل من الطعام والسمن، غير مضر به ولا مستكثر له، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه. قال شيخنا: وما ذكرته من الأجرة، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف، فصلح حمل الآية على ذلك. والله أعلم.
قلت: والاحتراز عنه أفضل، إن شاء الله. وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسما ونهب أتباعه فلا أدرى له وجها ولا حلا، وهم داخلون في عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً}.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وزوالا للتهم. وهذا الاشهاد مستحب عند طائفة من العلماء، فإن القول قول الوصي، لأنه أمين. وقالت طائفة: هو فرض، وهو ظاهر الآية، وليس بأمين فيقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع إليه أو المودع، وإنما هو أمين للأب، ومتى ائتمنه الأب لا يقبل قوله على غير. ألا ترى أن الوكيل لو أدعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا ببينة، فكذلك الوصي. وراي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الاشهاد إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره. قال عبيدة: هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل، المعنى: فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم. والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه. والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة، فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه، لقوله تعالى: {فَأَشْهِدُوا} فإذ دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لاشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد. والله أعلم.
السادسة عشرة: كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه. فالمال يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدبه. وقد مضى هذا المعنى في البقرة. وروي أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن في حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال: «نعم غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله». قال: يا رسول الله، أفأضربه؟ قال: «ما كنت ضاربا منه ولدك». قال ابن العربي: وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا.
السابعة عشرة: قوله تعالى: {وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً} أي كفى الله حاسبا لأعمالكم ومجازيا بها. ففي هذا وعيد لكل جاحد حق. والباء زائدة، وهو في موضع رفع.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8